فصل: تفسير الآية رقم (136):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



كأنه قيل: فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ الأجَلَ بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه، وإنَّما احتاج إلى ذلك، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم، أو غرقهم؟
والثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من {الرِّجز} أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِنًا إلى أجل، والمعنى: أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلًا.
قال أبُو حيَّان: وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب {لمَّا} جاء بـ {إذا} الفجائية أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن.
قوله: {هم بَالِغُوهُ} في محلِّ جرٍ صفة لـ {أجَلٍ} والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم.
وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} هذه {إذَا} الفُجَائيَّةِ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريبًا: و{هُمْ} مبتدأ، و{ينكُثُونَ} خبره، و{إذَا} جوابُ {لمَّا} كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور.
قال الزمخشريُّ: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} جواب {لَمَّا} يعني: فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا.
قال أبُو حيان: ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير. انتهى.
يعني فلابد من تأويل الكشْفِ بالاستمرار، كما تقدَّم، حتَّى يَصِحَّ ذلك.
وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في {لَمَّا} أنَّهَا ظَرْفٌ، إذْ لابد لَهَا حينئذٍ من عامل، وما بعد {إذَا} لا يعمل فيما قبلها، كما تحرَّر في موضعه.
وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هشام {يَنْكِثُون} بكسر الكاف، والجمهور على الضَّمِّ، وهما لغتان في المضارع.
والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصله: مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانيًا، وذلك المنكوث: نِكثٌ كـ: ذِبْح، وَرِعْي.
والجمعُ: أنكاث، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات. اهـ.

.تفسير الآية رقم (136):

قوله تعالى: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أخبر أنهم فاجؤوا النكث وكرروه، سبب عنه قوله: {فانتقمنا منهم} أي انتقامًا ليس كذلك الذي كنا نؤذيهم به، بل انتقام إهلاك عبرة لوصولهم بعد كشف جميع الشبه إلى مخص العناد؛ ثم فسره بقوله: {فأغرقناهم} بما لنا من العظمة {في اليم} أي في البحر الذي يقصد لمنافعة {بأنهم} أي بسبب أنهم {كذبوا بآياتنا} أي على ما لها من العظمة بما عرف من صحة نسبتها إلينا، ودل سبحانه على أنهم كذبوا بغير شبهة عرضت لهم بل عنادًا بقوله: {وكانوا} أي جبلة وطبعًا {عنها غافلين} أي يكون حالهم بعدها كحالهم قبلها، فكأنها لم تأتهم أصلًا فاستحقوا الأخذ لوقوع العلم بأن الآيات لا تفيدهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن المعنى أنه تعالى، لما كشف عنهم العذاب من قبل مرات وكرات ولم يمتنعوا عن كفرهم وجهلهم، ثم بلغوا الأجل المؤقت انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق، والانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب، واليم البحر، قال صاحب الكشاف: اليم البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر ومعظم مائه، واشتقاقه من التيمم، لأن المستقين به يقصدونه وبين تعالى بقوله: {بأَنَّهُمْ كَذّبوا بئاياتنا} أن ذلك الانتقام هو لذلك التكذيب.
وقوله: {وَكَانُواْ عَنهَا غافلين} اختلفوا في الكناية في عنها فقيل أنها عائدة إلى النقمة التي دل عليها قوله: {انتقمنا} والمعنى وكانوا عن النقمة قبل حلولها غافلين، وقيل الكناية عائدة إلى الآيات وهو اختيار الزجاج.
قال: لأنهم كانوا لا يعتبرون بالآيات التي تنزل بهم.
فإن قيل: الغفلة ليست من فعل الإنسان ولا تحصل باختياره فكيف جاء الوعيد على الغفلة.
قلنا: المراد بالغفلة هنا الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها، فهم أعرضوا عنها حتى صاروا كالغافلين عنها.
فإن قيل: أليس قد ضموا إلى التكذيب والغفلة معاصي كثيرة؟ فكيف يكون الانتقام لهذين دون غيرهما.
قلنا: ليس في الآية بيان أنه تعالى انتقم منهم لهذين معًا دلالة على نفي ما عداه، والآية تدل على أن الواجب في الآيات النظر فيها، ولذلك ذمهم بأن غفلوا عنها، وذلك يدل على أن التقليد طريق مذموم. اهـ.

.قال السمرقندي:

{فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم} يعني في البحر بلسان العبرانية.
وذلك أن الله تعالى أمر موسى بأن يخرج ببني إسرائيل من أرض مصر ليلًا، فاستعارت نسوة بني إسرائيل من نساء آل فرعون حليهن وثيابهن، وقلن: إن لنا خروجًا فخرج موسى ببني إسرائيل في أول الليل وهم ستمائة ألف من رجل وامرأة وصبي.
فذكر ذلك لفرعون.
فتهيأ للخروج إليهم فلما كان وقت الصبح ركب فرعون ومعه ألف ألف رجل، ومائتا ألف رجل، فأدركهم حين طلعت الشمس وانتهى موسى إلى البحر؛ فضرب البحر فانفلق له اثنا عشر طريقًا.
وكانت بنو إسرائيل اثني عشر سبطًا.
فعبر كل سبط في طريق، وأقبل فرعون ومن معه حتى انتهوا إلى حيث عبر موسى، فدخلوا تلك الطريق في طلبهم فلما دخل آخرهم وهمّ أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى أن ينطبق عليهم فغرقهم.
فذلك قوله تعالى: {فانتقمنا مِنْهُمْ فأغرقناهم فِي اليم بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بآياتنا} يعني: الآيات التسع وهي اليد والعصا والسنون ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات {وَكَانُواْ عَنْهَا غافلين} يعني: معرضين.
فلم يتفكروا ولم يعتبروا بها حتى رجع موسى ببني إسرائيل، فسكنوا أرض مصر فذلك قوله: {وَأَوْرَثْنَا القوم}. اهـ.

.قال ابن عطية:

و{اليم} البحر، ومنه قول ذي الرمة:
ذوية ودجا ليل كأنهما ** يم تراطن في حافاته الروم

والباء في قوله: {بأنهم} باء التسبيب، ووصف الكفار بالغفلة وهم قد كذبوا وردوا في صدر الآيات من حيث غفلوا عما تتضمنه الآيات من الهدى والنجاة فعن ذلك غفلوا. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {فانتقمنا منهم}.
قال أبو سليمان الدمشقي: انتصرنا منهم باحلال نقمتنا بهم، وتلك النقمة تغريقنا إياهم في اليم.
قال ابن قتيبة: اليم: البحر بالسريانية.
قوله تعالى: {وكانوا عنها غافلين} فيه قولان:
أحدهما: عن الآيات، وغفلتهم: تركهم الاعتبار بها.
والثاني: عن النقمة. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {فانتقمنا منهم} يعني كافأناهم عقوبة لهم سوء صنيعهم.
وأصل الانتقام في اللغة سلب النعمة بالعذاب {فأغرقناهم في اليم} والمعنى أنه تعالى لما كشف عنهم العذاب مرات فلم يؤمنوا ولم يرجعوا عن كفرهم فلما بلغوا الأجل الذي أجل لهم انتقم منهم بأن أهلكهم بالغرق فذلك قوله فأغرقناهم في اليم يعني البحر واليم الذي لا يدرك قعره وقيل هو لجة جر البحر ومعظم مائه.
قال الزهري: اليم معروف لفظه سريانية عربتها العرب ويقع اسم على البحر الملح والبحر العذب ويدل على ذلك قوله تعالى: {فاقذفيه في اليم} والمراد به نيل مصر وهو عذب {بأنهم كذبوا بآياتنا} يعني أهلكناهم وأغرقناهم بسبب أنهم كذبوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وصدق نبينا {وكانوا عنها} يعني عن آياتنا {غافلين} يعني معرضين وقيل كانوا على حلول النقمة بهم غافلين.
ولما كان الإعراض عن الآيات وعدم الالتفات إليها كالغفلة عنها سموا غافلين تجوزًا لأن الغفلة ليست من فعل الإنسان. اهـ.

.قال أبو حيان:

{فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين} أي أحللنا بهم النقمة وهي ضدّ النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم والباء في {بِأنهم} سببية والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام والظاهر عود الضمير في {عنها} إلى الآيات أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب، وقيل يعود الضمير على النقمة الدالّ عليها {فانتقمنا} أي كانوا عن النقمة وحلولها بهم غافلين والغفلة في القول الأول عنى به الإعراض عن الشيء لأنّ الغفلة عنه والتكذيب لا يجتمعان من حيث أن الغفلة تستدعي عدم الشعور بالشيء والتكذيب به يستدعي معرفته ولأنه لو أريد صفة الغفلة لكانوا معذورين لأنّ تلك ليست باختيار العبد. اهـ.

.قال أبو السعود:

{فانتقمنا مِنْهُمْ} أي فأردنا أن ننتقم منهم لِما أسلفوا من المعاصي والجرائم، فإن قوله تعالى: {فأغرقناهم} عينُ الانتقام منهم فلا يصح دخولُ الفاء بينهم ويجوزُ أن يكون المرادُ مطلقَ الانتقام منهم والفاءُ تفسيرية كما في قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبّ} إلخ {فِي اليم} في البحر الذي لا يُدرك قعرُه وقيل: في لُجّته {بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِين} تعليلٌ للإغراق أي كان إغراقُهم بسبب تكذيبِهم بآياتِ الله تعالى وإعراضِهم عنها وعدمِ تفكرِهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية، والفاءُ وإن دلت على ترتب الإغراقِ على ما قبله من النكْثِ لكنه صرّح بالتعليل إيذانًا بأن مدارَ جميعِ ذلك تكذيبُ آياتِ الله تعالى والإعراضُ عنها ليكون ذلك مَزْجرةً للسامعين عن تكذيب الآياتِ الظاهرةِ على يد رسولِ الله صلى الله عليه وسلم والإعراضِ عنها. اهـ.

.قال الألوسي:

{فانتقمنا منْهُمْ} أي فأردنا الانتقام منهم، وأول بذلك ليتفرع عليه قوله سبحانه: {فَأَغْرَقْنَاهُمْ} وإلا فالإغراق عين الانتقام فلا يصح تفريعه عليه.
وجوز أن تكون الفاء تفسيرية وقد أثبتها البعض كما في قوله تعالى: {ونادى نوح ربه فقال رب} [هود: 45] إلخ وحينئذٍ لا حاجة إلى التأويل {في اليم} أي البحر كما روي عن ابن عباس.
والسدي رضي الله تعالى عنهم، ويقع على ما كان ملحًا زعافًا وعلى النهر الكبير العذب الماء ولا يكسر ولا يجمع جمع السلامة، وقال الليث: هو البحر الذي لا يدرك قعره، وقيل: هو لجة البحر وهو عربي في المشهور.
وقال ابن قتيبة: إنه سرياني واصله كما قيل إلى ما ترى والقول بأنه اسم للبحر الذي غرق فيه فرعون غريق في يم الضعف {بأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بآيَاتنَا} تعليل للإغراق يعني أن سبب الإغراق وما استوجبوا به ذلك العقاب هو التكذيب بالآيات العظام وهو الذي اقتضى تعلق إرادة الله تعالى به تعلقًا تنجيزيًا وهذا لا ينافي تفريع الإرادة على النكث لأن التكذيب هو العلة الأخيرة والسبب القريب ولا مانع من تعدد الأسباب وترتب بعضها على بعض قاله الشهاب ونور الحق ساطع منه، وقال شيخ الإسلام: الفاء وإن دلت على ترتب الإغراق على ما قبله من النكث لكنه صرح بالتعليل إيذانًا بأن مدار جميع ذلك تكذيب آيات الله تعالى وما عطف عليه ليكون ذلك مزجرة للسامعين عن تكذيب الآيات الظاهرة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى، وفيه مناقشة لا تخفى.
{وَكَانُوا عَنْهَا غَافلينَ} الضمير المجرور للآيات، والغفلة مجاز عن عدم الذكر والمبالاة أي بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم مبالاتهم بها وتفكرهم فيها بحيث صاروا كالغافلين عنها بالكلية وإلا فالمكذب بأمر لا يكون غافلًا عنه للتنافي بين الأمرين، وفي ذلك إشارة إلى أن من شاهد مثلها لا ينبغي له أن يكذب بها مع علمه بها، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الضمير للنقمة وأريد بها الغرق كما يدل عليه ما قبله، وعليه فيجوز أن تكون الجملة حالية بتقدير قد، ولا مجاز في الغفلة حينئذٍ والأول أولى كما لا يخفى. اهـ.